الحياة شطيرة خبز مدهونة باللعنة يزدردها الكتّاب ببطء
كرم نعمة لندن
يقدم ميشائيل مار في كتاب فهود في المعبد \"درساً لامعاً\" في الكتابة! ليس بجمله القصيرة والمؤثرة حسب، بل بالحس التعبيري الداخلي للجملة، حتى يخيل الى القارئ انه يتذوق بهذه الكلمات \"عصير رمان منعش\" من لب الكلمات نفسها! فتراوده الرغبة لاعادة قراءة كل جملة مرت عليه. الالمانية في هذا الكتاب معادل عميق لتلابيب الانكليزية، فيما برعت لغة المترجم أحمد فاروق في إيجاد المعادل العربي.
ربما لأن ميشائيل مار ورث زبدة اللغة من والده الكاتب باول مار، وهذا سبب بحد ذاته يصل متأخراً أمام عمق \"فهود في المعبد\"، فهذا الكتاب يكتفي بذاته بامتياز تعبيري واجرائي، ليس في خياراته لإثنتي عشرة تجربة مميزة في الكتابة، بل بالتقاطه الجانب المحسوس وغير المرئي في حياة وتجربة هولاء الكتاب، والتعبير عنها بكتل مصفدة بضياء باهر ومشدود بين الأدبي والسايكولوجي والنقدي الفذ.
وكتاب \"فهود في المعبد\" يختلف عن \"الثناء على ما يبقى\" لأننا أمام حس لغوي واحد، فيما تتعدد مستويات أعماق اللغة في الكتاب الآخر لانه لأكثر من كاتب، ان تكتب عن تجربتك أنت سيرافقك القلق المتصاعد، لكن تجربتك بعين أخرى تبدو متفاعلة بكيمائية مبتكرة.
الألماني ميشائيل مار الحاصل على جائزة الاكاديمية الالمانية للغة والشعر وجائزة ليسنغ للنقد الأدبي، يعرفنا في كتابه \"فهود في المعبد\" ان منتج الأدب العظيم ليس بالضرورة \"انسانياً\" أو في أقل تقدير لا يخضع دائماً لقيّم البشرية المعتادة، وقد يكون شريراً أو أنانياً أو حقوداً، وقد يفتقد الى الذوق فيما هو يكتب أدباً عظيماً، لكنه يرينا في واقع الامر أين يختفي سر المبدع في مقطع أفقي وأحياناً جانبي أو من الأعلى، لا يرسمه الا بعد ان يقرأ أكثر من سيرة للكاتب، وبالطبع نصوصه الادبية.
حصان يتألم داخل كل إنسان
فيمكننا أن نتصور ان هانس كريستيان أندرسن لم يكن قبيحاً فحسب، بل كان أيضاً الباب العالي الذي يستطيع عزرائيل الدخول عبره في كل دقيقة متنكراً مثلا في شكل نقرس غير مؤذ. ويبدو لنا مارسيل بروست مثل أي إنسان في داخله ثمة حصان يتألم وكرمه لا يتفق مع المعاير السردية لاعماله الروائية.
ويرافق فرانز كافكا أكثر أدباء اللغة الألمانية غموضاً ونقاءً، السؤال الجوهر عما اذا كان بالامكان فك شيفرات أعماله، وكذلك الحال بحياته.
فيما يتوصل المؤلف الى أن روبرت موزيل كان شخصاً طيباً جداً، عندما تنازل عن نصيبه من الميراث لأخته كي يوفر لها مهراً أكبر، ولقد احتمل لأكثر من أربع سنوات أن تكون لزوجته علاقة مع رجل آخر. لقد كان رجلاً بلا ضغينة، رومانسياً، وربما كان هشاً أكثر من اللازم.
ولا أحد قام بمعروف مثل الذي قدمته فرجينيا وولف، عندما توفي ثوبي أخوها المحبب اليها بمرض التيفوئيد، وكان ذلك جديراً بأن يجعلها تنهار، الا انها استمرت بالكتابة الى حبيبته المريضة والتي طلب الاطباء بألا يخبرها أحد بنبأ وفاة ثوبي، تحكي لها عن تحسن صحته وتمد فيها صديقتها التي بدأت تتماثل تدريجياً للشفاء بمعلومات زائفة عن الحيوية والنشاط اللذين أصبح ثوبي يتمتع بها وهو الذي وُورى الثرى منذ فترة! كيف أمكن الطلب من فرجينيا القيام بهذا المعروف؟
ورغم الاطار الشيطاني المحيط بأعمال توماس مان، فانه يندر أن نجد ذكراً لابليس في الأدبيات النقدية لهذه الاعمال.
ومع انه لم يقم أحد بوضع علامات القياس لفلاديمير نابوكوف، الا انه صار عملاقاً، لقد شهرته \"لوليتا\" الرواية الجبارة التي ظل يتدرب من أجلها عشرين عاماً.
ويبدأ ميشائيل مار باطلاق سؤال بارع في التعريف بجوزييه تومازي دي لامبيدوزا، ويؤجل الاجابة عليه \"هل هو شيء مزعج أم مريح لو قام أحد عمالقة الفكر بارتكاب حماقة؟ مثل هذه الزلة التي تمثلت في حكم نابوكوف على رواية لامبيدوزا (الفهد)، إذ اعتبر أن هذه الرواية تنتمي لأدب الشبيبة ولم يقل ذلك بصيغة المديح، لم يحدث أبداً أن فقد نابوكوف صوابه مثلما فعل خلال الثواني العشر التي غمم خلالها بهذه العبارة\".
ويسأل أيضاً \"ما الذي يميز هذا الكتاب الذي لا يزال يتمتع بالشهرة والذي لم يكتب مؤلفه غيره؟\".