main-logo

مكتبة مستقلة متخصصة في بيع كتب الأدب والفنون والفلسفة وعلم النفس وأدب الطفل.

المادة والعقل .. بحث فلسفي

بونجي

٤٠ ٥٢

 تعتبر فلسفة العقل أحد أهم الفروع الفلسفية وأقدمها، فقد كانت مسائلها مجالا للبحث والنظر منذ ظهور الفلسفة، إلا أنها بدأت كمبحث فلسفي نسقي ومنظم تقريبا مع ظهور كتاب جلبرت رايل (مفهوم العقل) عام 1949م، ومنذ أن وضع رايل هذا الكتاب وفلسفة العقل في تطور مستمر أكثر من أي فرع فلسفي آخر، فقد شغلت مباحثُها تفكيرَ أغلب الفلاسفة المعاصرين، وكتبوا حولها العديد من الكتب والدراسات، ومن أهم ماكُتب في هذا المجال كتاب (المادة والعقل بحث فلسفي) للفيلسوف الأرجنتيني الشهير ماريو بونجي (1919م-2020م).

    ولد ماريو بونجي في بوينس آيرس وتلقى تعليمه فيها، وانصرف في بداية حياته إلى دراسة الفيزياء النووية والذرية، ثم اتجه بعد ذلك إلى دراسة المشكلات المتعلقة بفلسفة العلم والعقل، فنال كرسي فلسفة العلم في جامعة بوينس آيرس، ومكث فيها مدرسا حتى جاء الوقت الذي قرر فيه أن يشق طريق حياته بعيدا عن بلده بسبب الظروف السياسية آنذاك حيث رحل إلى الولايات المتحدة ثم المكسيك وألمانيا إلى أن استقر أخيرا في كندا.

    تميز بونجي بإتقانه للكثير من اللغات التي مكنته من الاطلاع على العديد من الكتب الأجنبية في شتى المعارف فكان لذلك أبلغ الأثر في تشكيل معالم فلسفته، وصار بذلك أحد الفلاسفة الموسوعيين الذين يصعب أن تحدد ميدانا معينا لاهتماماتهم، فقد كتب بونجي أكثر من خمسين كتابا في فلسفة العلم وفلسفة اللغة وفلسفة العقل وفلسفة الطب وغيرها من فروع الفلسفة، ورغم غزارة إنتاجه والمكانة الكبيرة التي يحتلها بونجي إلا أنه لم ينل حتى الآن القدر الكافي من اهتمامات البحث والترجمة بما يوازي أهميته بوصفه أحد أعلام الفلسفة المعاصرة، فقد بقي مغمورا يعيش وراء الستار، ويكفي أن تعرف أن هذا الكتاب هو أول كتبه التي تترجم إلى العربية.

    يعتبر بونجي من أقطاب الفلسفة المناصرين للعلموية والمادية، وأحد الوجوه البارزة التي انخرطت في النقاش المحتدم حول مسائل المادة والعقل، وقد لقيت أطروحاته الفلسفية والعلمية اهتماما واسعا، وحظيت بمناقشات وانتقادات واسعة، وبينت كتبه وأبحاثه العلمية قدر هذا الفيلسوف ومكانته في الفلسفة المعاصرة.

    كرس بونجي جهده طوال مسيرته الفلسفية لبيان أسس الفلسفة المادية العلمية، ونقد النزعات المثالية على تعددها واختلاف صورها نقدا لاذعا مشوبا في كثير من الأحيان بنوع من السخرية، ومن ذلك مثلا سخريته من الفلسفة الوجودية عموما ووجودية هيدجر خصوصا باعتبارها فلسفة عدمية لاتقوم بحل أي مشكلات فلسفية إذ يقول: “لاأستطيع القول إن الوجودية فلسفة، مادامت جمل هيدجر الخاصة مثل: عوالم العالم، والزمان هو نضج الزمانية، وجوهر الحقيقة هو الحرية، هي جمل غامضة ولاسبيل إلى فهمها، وكذلك ذهب نيتشه إلى أن الوجودية عدمية، ويظل الأمر قائما حتى يكتشف الأطباء النفسيون هل هو جنون أم بلاهة أم شيء زائف”(1).

إن أهمية ترجمة كتابات بونجي تعود إلى عدة أمور:

    أولا: المزاوجة التي قام بها بونجي بين العلم والفلسفة في بحث مسألة العلاقة بين العقل والجسم وحرية الإرادة وغيرها من المسائل، خلافا لبعض الفلاسفة الذين قاموا بتهميش الواقع العلمي المادي وحصروا دور الفيلسوف في مجرد التأمل النظري، يظهر هذا في مناقشة بعض فلاسفة العقل مثل هيلاري بتنام وسول كريبكى لمشكلة العقل والجسم على ضوء خيالات تامة كالمخ في وعاء، والأرض الجافة، والزومبيات وغير ذلك، يقول بونجي في بيان ميزة فرض التطابق العصبي النفسي: “ولحسن الحظ أن فرض التطابق العصبي النفسي لايمثل أوهام الخيال العلمي ولايقع ضمنها وإنما يرتكز على بحث معرفي عصبي متين ويحث عليه، وهذا شيء قلما يراعيه فلاسفة العقل”(2).

    ثانيا: الأصالة والجدة في الحلول التي طرحها بونجي لمعالجة (مشكلة العقل والجسد) أو المشكلة الصعبة كما يسميها تشالمزر ممثلة في النظرية الانبثاقية أو مايسمى (الواحدية العصبية النفسية).

    ثالثا: بيانه للأصول الفلسفية لكثير من النظريات العلمية، وكشفه عن المثالية الكامنة في بعض هذه النظريات، ومن ذلك قوله موضحا تسرب المثالية إلى الفيزياء وعلمي النفس والاجتماع: “مجموعة من الفيزيائيين النظريين البارزين أعادوا ابتكار مثالية هيجل ومذهب الظواهر عند بوذا وبطليموس وهيوم وكانط وكونت وماخ… زد على ذلك أن المثالية لاتزال تنطلق بقوة في علم النفس وفي ضواحي العلم الاجتماعي وعلم الاجتماع الفينومينولوجي”(3)، واعتباره نظرية الأكوان المتعددة -التي تم توظيفها من قبل الملاحدة لصالحهم- مجرد فرضية مثالية تشبه المثل التي قال بها أفلاطون، يقول: “وإذا ساورك شك في وجود أفلاطونيين بيننا راجع الأدبيات الغزيرة عن الأكوان الموازية”(4).

    عاش بونجي حياة طويلة حافلة بالأنشطة والإنجازات الفكرية والفلسفية والمهنية، وشرب من مشارب عديدة ونهل من تراث الأقدمين والمحدثين، وقدم إرثا فلسفيا كبيرا يستحق التمحيص والتنقيب للوصول إلى فهم فلسفته فهما عميقا ومتكاملا، وقد جاء هذا المقال لعرض الخطوط العامة لفلسفة ماريو بونجي مؤملاً أن يشكل بداية للبحث بصورة أكثر اتساعا.

محتويات الكتاب:

    صدر كتاب المادة والعقل في عام 2010م، وقد قام بترجمته الدكتور صلاح إسماعيل المتخصص في فلسفة اللغة وفلسفة العقل، وهو أول من قدم فلسفة ماريو بونجي للمكتبة العربية من خلال كتابه (اللغة والعقل والعلم في الفلسفة المعاصرة).

    يتكون الكتاب من قسمين أساسيين: يعالج القسم الأول قضايا متعلقة بالمادة، أما القسم الثاني فقد خصصه المؤلف لمعالجة القضايا المرتبطة بالعقل، ففي القسم الأول تحدث بونجي عن الأسس التي تقوم عليها ماديته العلمية، والفرق بينها وبين الماديات السابقة عليها، ونقد الصور المتنوعة للفلسفة المثالية، والعلاقة بين الابستمولوجيا والأنطولوجيا، بالإضافة إلى الحديث عن المذهب الطبيعي وأنواعه ومميزاته.

    في حين يهتم القسم الثاني بالمسائل المتعلقة بالعقل كمسألة العلاقة بين العقل والجسم، والوعي وأنواعه والنفس والإدراك ومسألة الإرادة الحرة، ومشكلة الفصل بين العلم الزائف والحقيقي وغيرها من الموضوعات.

   وأمام هذا الكم الهائل من المسائل والمشكلات المعرفية المتشعبة قمت باختيار أربعة مواضيع أرى أنها كافية في رسم الملامح العامة لفلسفة ماريو بونجي، وهي:

  1. المادية: باعتبارها الركيزة الأساسية التي تقوم عليها فلسفة بونجي.
  2. مشكلة العقل والجسم.
  3. مشكلة الفصل بين العلم الحقيقي والزائف: وفيها تظهر نزعته العلمية المتطرفة متمثلة في المعايير التي وضعها للتمييز بين العلم الحقيقي والزائف، واستبعاد الدين من دائرة المعرفة الحقيقية.
  4. حرية الإرادة.

 


٤٠ ٥٢
نفدت الكمية
منتجات قد تعجبك