يقف وراء "التجربة الذاتية" كائنٌ حالم يتوق إلى "الكلّيّة"، ويتساءل عن السبل إلى تحقيق ذلك، كائن يريد "التخلص من كل ما يسمّمنا"، ويضع هذا الخلاص شعاراً لمؤلفه: "إن المعاناة التي نكابد عند تخلصنا من التسمم هي موضوع هذا الكتاب". هذه النزعة التطَهُّرية تغلف "التجربة الداخلية"، بل تشكل منطلقاً أساسياً للتصورات التي يتبناها باتاي. لكن الكائن الحالم يصطدم بحقيقة بدهية، وهي أننا ننتهي إلى الفناء، بالتالي تتعارض الكلُّية مع المحدودية. لهذا يستطرد قائلاً: "هذا الكتاب هو حكاية يأس". إن هذه المهاوي الوجودية هي قدر الكائنات الحالمة التي تنجذب نحو مثالية ما، هي قصية بالضرورة عن الواقع، لذلك يظل القلق والحيرة والعصف العاطفي هي المشاعر الواردة والمداهمة باستمرار. ربما هذا ما سيدفع باتاي إلى تصريف جملة بالغة الحكمة وشديدة البلاغة: "هذا العالَم وُهب للإنسان كلغز يتوجّب عليه حلُّه".
إن "التجربة الداخلية" هي اعترافات متعاقبة بتجليات النجاح والإخفاق في حلّ لُغز العالَم. يتحدث صاحب التجربة وفق خطين متوازيين من جهة، ومتصادمين أيضاً من جهة أخرى، هما: "معرفة كل شيء" و"إتلاف النفس". يقول في هذا الصدد: "رأيتُ ما تعذّر على العيون رؤيته. لم يعد هناك من شيء يتعذّر عليّ معرفته... في هذه المتاهة، وبإرادتي، استطعتُ إتلاف نفسي". إن التّوق إلى إدراك كل شيء سينتهي بالضرورة إلى دمار ما، لعله في الغالب دمارٌ نفسي وعقلي. لذلك قادت طريقُ الأفكار الكثير من الفلاسفة والمبدعين إلى هاوية الجنون. وقد يكون السبب الأساس هو شساعة المسافة بين مناطق الحلم التي ينتمي إليها المفكر/ المبدع رمزياً والمناطق الواقعية التي تغوص فيها قدماه.
لقد أسبغ ميشال فوكو صفة العظمة على الشخص المجنون، لأنه الأقدر على ممارسة السخرية من العالَم. أما إدغار ألن بّو فقد قال: "لقد اعتبرني الناس مجنوناً، ولكن لم يُبث بعد إن كان الجنون هو أرفع درجات الذّكاء أم لا، أو إن كان كلّ ما هو رائع وكل ما هو عميق نابع من سقم في الفكر أو حالات مزاجية للعقل تعلو على حساب القدرات الفكرية العامة".